أعلنت تركيا مؤخرًا أن رئيسها رجب طيب أردوغان بصدد افتتاح أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في الصومال بالقرب من مطار مقديشيو خلال هذا العام (2017). وستشتمل القاعدة التي وُضع حجر أساسها في مارس 2015، على ثلاث مدارس عسكرية، ومخازن للأسلحة والذخيرة، وأبنيه للإقامة، وذلك على مساحة تبلغ 400 دونم، بتكلفة 50 مليون دولار.
وتعد القاعدة التركية بالصومال ثاني قاعدة عسكرية تقيمها أنقرة في الخارج بعد قاعدتها الأولى في قطر، والتي بدأت عملها فعليًّا في نوفمبر 2015، وذلك بموجب اتفاق الدولتين (تركيا وقطر) في ديسمبر 2014 على تشكيل آلية لتعزيز التعاون بينهما في مجالات التدريب العسكري، والصناعات الدفاعية، والمناورات العسكرية المشتركة، والتمركز المتبادل للقوات.
وقد أثار الإعلان التركي عن القاعدة العسكرية في الصومال كثيرًا من التساؤلات بشأن أبعاد الدور التركي في إفريقيا بوجه عام، وفي الصومال بصفة خاصة، والأهداف المتوخاة من إنشاء هذه القاعدة، والموقف الصومالي منها، وأثر ذلك على المصالح الوطنية للقوى الدولية والإقليمية الأخرى.
الانفتاح التركي على إفريقيا
مع وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة في تركيا عام 2002 تبنى الحزب خطة للانفتاح على القارة الإفريقية، بعد سلسلة من الإخفاقات في الانضمام للاتحاد الأوروبي. وكان الحزب يستهدف من ذلك البحث عن دور فاعل على المستويين الإقليمي والدولي، والاستفادة من مميزات السوق الإفريقية الواسعة (1.2 مليار نسمة خلال هذا العام وفقًا لتقديرات Worldometers)، واكتساب التأييد الإفريقي للقضايا التركية في المحافل الدولية، وموازنة أدوار القوى الإقليمية في إفريقيا.
في هذا السياق، أعدت تركيا استراتيجية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الإفريقية عام 2003، وأعلنت عام 2005 كعام لإفريقيا في تركيا. وهو نفس العام الذي حصلت فيه أنقرة على صفة مراقب بالاتحاد الإفريقي، قبل أن تحصل على صفة الشريك الاستراتيجي للاتحاد في يناير 2008. كما حصلت أيضًا على عضوية بنك التنمية الإفريقي في مايو من العام ذاته.
وفي يونيو 2008، انضمت تركيا إلى منتدى شركاء الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيجاد"، ووطدت علاقاتها مع المنظمات الإفريقية الأخرى (مثل: تجمع شرق إفريقيا، والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا-إيكواس)، وتوجت ذلك بآلية أشمل للعلاقات تمثلت في القمة التركية-الإفريقية، التي عُقدت لأول مرة في إسطنبول عام 2008، وستعقد القمة القادمة في سبتمبر من العام الجاري.
عوامل التقارب التركي-الصومالي
حظيت الصومال بأولوية خاصة في إطار الاستراتيجية التركية تجاه دول القارة الإفريقية، ويعود ذلك إلى عدد من العوامل لعل أهمها:
1- رغبة تركيا في تسويق الصورة القومية لها كدولة قائدة للعالم الإسلامي انطلاقًا من الصومال، من خلال المساهمة في تسوية الصراع السياسي فيها، وإقرار الأمن، وتوفير مواد الإغاثة الإنسانية. وقد أصبحت الفرصة مواتية بانشغال الدول العربية بترتيب أوضاعها الداخلية إثر ثورات الربيع العربي.
2- المقدرات القومية للصومال، ممثلة في موقعها الاستراتيجي بإقليم القرن الإفريقي. فهي تشرف على خليج عدن، والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي يعد واحدًا من أهم طرق التجارة العالمية. كما تؤكد التقارير وجود مخزون واعد من النفط والغاز الطبيعي في الصومال.
3- الروابط الدينية والتاريخية بين تركيا والصومال، منذ دخول العثمانيين مقديشيو في القرن السادس عشر، في عهد السلطان سليمان القانوني، لإنقاذها من حملات البرتغاليين.
4- علاقة الجوار بين الصومال وإثيوبيا، التي تراها تركيا حليفًا قويًّا يمكن من خلاله التمركز بالقرن الإفريقي، واستثمار ذلك في الضغط على دول أخرى، خاصة مصر، عبر ورقة المياه.
الدعم التركي للصومال
الدور التركي في الصومال لا يمكن أن تخطئه عين، حيث أخذت أنقرة على عاتقها المساهمة الفاعلة في تسوية الصراع الدائر فيها، وإعادة توحيد شطري الصومال، برعاية المحادثات بين الحكومة في مقديشيو، والسلطات فيما يعرف بجمهورية أرض الصومال، والإدارات الإقليمية في بونت لاند وجوبا لاند وغيرهما.
في هذا الإطار، استضافت تركيا "مؤتمر إسطنبول" بشأن الصومال، برعاية الأمم المتحدة في مايو 2010، والذي تمخض عن صدور إعلان إسطنبول كخارطة طريق لتسوية الصراع الصومالي، وهو ما أفضى إلى صياغة دستور للبلاد، وانتخاب البرلمان، الذي انتخب بدوره حسن شيخ محمود كأول رئيس غير انتقالي للصومال منذ عام 1991، كما استضافت إسطنبول المؤتمر الصومالي الثاني عام 2012، تحت عنوان "تحديد المستقبل الصومالي: أهداف عام 2015"، لمناقشة قضايا المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار في الصومال.
وفي الوقت الذي ظلت فيه غالبية الدول تعمل من خارج الصومال لدواعٍ أمنية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن لتركيا أكبر سفارة أجنبية في مقديشيو. كما تعتبر أنقرة أبرز الداعمين للحكومة الصومالية، حيث تقدم لها أربعة ملايين ونصف دولار شهريًّا. وهي الدولة الأولى في مجال إعادة الإعمار، وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة، بما فيها المقر الجديد للبرلمان، وميناء مقديشيو، والمستشفى الصومالي-التركي التي افتتحها أردوغان بنفسه في الخامس والعشرين من يناير 2015، بالإضافة للوحدات السكنية، وشبكات الطرق وخطوط الاتصال، حيث يوجد خط جوي مباشر بين أنقرة ومقديشيو.
وتتحمل تركيا أيضًا الدور الأساسي في التعليم بالصومال، باستضافة أكثر من 15 ألف صومالي للدراسة بالجامعات التركية، وإنشاء المدارس التركية بالصومال. كما تمارس دورًا فاعلا في دعم اللاجئين والنازحين، وتوفير مواد الإغاثة الإنسانية، عبر وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، والهلال الأحمر، وهيئة الإغاثة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصومال تتلقى نحو ثلث المساعدات الإنسانية التي تقدمها تركيا للدول الإفريقية.
وقد تجلى الدور الإنساني لتركيا في الصومال خلال أزمة المجاعة التي ضربت البلاد منذ عام 2011؛ إذ تم تنظيم حملات شعبية واسعة النطاق في تركيا لجمع الأموال لصالح منكوبي المجاعة بالصومال، وكان رئيس الوزراء التركي آنذاك أردوغان هو المسئول الأجنبي الوحيد على هذا المستوى الذي قام بزيارة الصومال خلال الأزمة، ولعل هذا هو ما جذب أنظار العالم مرة أخرى للقضية الصومالية. كما زار أردوغان الصومال بعد توليه الرئاسة في يناير 2015، وهو ما حظي بتقدير شديد لدى الصوماليين.
دوافع إقامة القاعدة العسكرية
يكشف سعي أنقرة لإنشاء قاعدة عسكرية في الصومال عن أدوات جديدة في السياسة الخارجية التركية إزاء إفريقيا، تعتمد على عناصر القوة الصلبة، بعدما تمكنت من تحقيق اختراقات عديدة في الفضاء الإفريقي باستخدام عناصر القوة الناعمة. وهو ما يثير تساؤلات عن أسباب هذا التحول وتوقيته، وإمكانية تكراره في دول إفريقية أخرى.
وقد أكدت تركيا أن إنشاء قاعدتها العسكرية بالصومال يستهدف تدريب أكثر من 10.500 جندي صومالي، للمساهمة في إقرار الأمن، ومكافحة الإرهاب، وذلك على يد 200 من المدربين العسكريين الأتراك، مؤكدة أن ذلك يأتي استكمالا لجهودها في تحقيق السلم بالصومال.
لكن الأمر أبعد في مداه من الأهداف سالفة الذكر، وأن الهدف الحقيقي من إنشاء هذه القاعدة يتمثل في الآتي:
أولا- رغبة تركيا في حماية مصالحها الاقتصادية في إفريقيا، حيث بلغ حجم التجارة التركية الإفريقية نحو 20 مليار دولار عام 2015، ومن المخطط أن يصل إلى 50 مليار دولار بحلول عام 2023، كما يبلغ حجم استثماراتها المباشرة في إفريقيا 6 مليارات دولار بنهاية 2014، منها 100 مليون دولار في الصومال.
ثانيًا- مد النفوذ العسكري التركي إلى القرن الإفريقي، وإجراء مناورات مشتركة مع جيوش المنطقة؛ حيث وقّعت أنقرة بالفعل اتفاقيات أمنية مع كل من كينيا وإثيوبيا وتنزانيا وأوغندا لتدريب قوات الأمن في تلك الدول على مكافحة الإرهاب.
ثالثًا- فتح أسواق جديدة أمام الصناعات العسكرية التركية التي تطورت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة.
رابعًا- موازنة النفوذ الإيراني في القرن الإفريقي، الذي يعد من المناطق الاستراتيجية التي تسعى طهران إلى إيجاد موطئ قدم فيها، خاصة في ظل تداعيات عملية "عاصفة الحزم" في اليمن على النفوذ الإقليمي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
الموقف الصومالي
أعلنت الخارجية الصومالية في أكتوبر 2016 رفضها إطلاق اسم "قاعدة" على الكيان التركي الجديد، مؤكدة أن الأمر لا يتجاوز إنشاء مدارس تركية عسكرية لتدريب القوات الصومالية. وهذا النفي يعود إلى اعتبارات تتعلق بالانتخابات الرئاسية التي كان يجري الإعداد لها آنذاك، والتي كان يتطلع الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود لحسمها، مما دفع الخارجية الصومالية إلى تجنب إثارة الرأي العام في الصومال.
لكن الإدارة الصومالية الجديدة التي تشكلت في يناير الماضي (2017) برئاسة الرئيس محمد عبدالله فرماجو، رحبت بإنشاء القاعدة، حتى إن الرئيس الصومالي هو من بشر الشعب، عبر تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، بقرب افتتاح القاعدة، مؤكدًا أنها تقام استنادًا لاتفاق ثنائي سابق بين الدولتين، وأنها ستُسهم في استعادة قوة الجيش الصومالي. كما قام وزير الدفاع الصومالي عبدالقادر علي ديني بجولة تفقديه للقاعدة، وجه خلالها الشكر لتركيا، بسبب دعمها الكبير للصومال.
والملفت للنظر هنا أن الشعب الصومالي ذاته تقبل إنشاء هذه القاعدة دون اعتراض أو حتى تذمر، بدعوى أن تركيا كانت في مقدمة الفاعلين الخارجيين المنخرطين في الصراع الصومالي، وأنها حرصت على وجود مسئوليها في الصومال، والعمل من داخل مقديشيو، رغم الصعوبات الأمنية فيها، إلى الدرجة التي جعلت من الملف الصومالي واحدًا من أهم الملفات التي تتولاها الحكومة التركية بعد دائرة الجوار الجغرافي المباشر لتركيا، خاصة في سوريا وقبرص.
لكن المعارضة المسلحة في الصومال، خاصة "حركة الشباب المجاهدين"، سيكون لها بالطبع رأي آخر؛ لأنها تصنف تركيا في قائمة الأعداء، وترى أن وجودها العسكري بالصومال يمثل تضييقًا على أنشطتها، وبالتالي من المؤكد أن القاعدة التركية ستكون هدفًا لهجمات المعارضة، مثلما حدث عام 2013، عندما طالت التفجيرات محيط السفارة التركية. وبالطبع فإن هذه الهجمات ستستهدف قطع الطريق على تركيا أمام إعادة بناء القوات المسلحة وقوات الأمن الصومالية، ومنع الدول الأخرى من إنشاء قواعد أجنبية في الصومال.
ردود الأفعال الإقليمية والدولية
في ضوء أن تركيا ليست هي الفاعل الأجنبي الوحيد في الصومال، وأن هناك دولا أخرى تسعى إلى تثبيت أقدامها في المنطقة، سواء في خليج عدن أو على الأراضي الصومالية، فإن إنشاء القاعدة التركية لن يمر مرور الكرام بالنسبة لتلك الدول، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعددًا من القوى الإقليمية؛ حيث ترى أن الأمر لن يقتصر على مجرد تدريبات عسكرية، وأن إنشاء هذه القاعدة ربما يبدأ بالتدريب، لكنه سيصل تدريجيًّا إلى تكريس الوجود العسكري التركي في واحدة من أهم البقاع الاستراتيجية في إفريقيا، وهو ما يثير مخاوف تلك الدول.
فعلى الرغم من عضوية تركيا في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ووجود تفاهمات بينها وبين الدول الغربية بوجه عام؛ فإن القيمة الاستراتيجية للصومال تظل أكبر من أن تغض الولايات المتحدة وبريطانيا الطرف عن التحركات التركية فيها. لذا تحرص الدولتان على مراقبة الأوضاع الصومالية عن قرب، وفتح خطوط اتصال مع الإدارات الصومالية، وهو ما يفسر زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري للصومال، وحرص الرئيس الأمريكي السابق "بارك أوباما" على لقاء الرئيس الصومالي السابق في كينيا في يوليو 2015. ويفسر أيضًا تنظيم بريطانيا للعديد من المؤتمرات الدولية لدعم الصومال، وذلك لأهداف عديدة منها تذكير تركيا بأن مصالح بريطانيا في القرن الإفريقي دائمة.
وبالنسبة لإيران، فإن إنشاء القاعدة التركية بالصومال سيجعلها أكثر حرصًا على التشبث بالتمركز بالقرن الإفريقي، ولو بذريعة محاربة القرصنة في الإقليم. وهو أمر تبدو أهميته إثر الحملة العسكرية ضد الحوثيين، وكذا بعدما خسرت طهران حليفتها الأبرز في شرق إفريقيا "السودان". ولعل ذلك ما يفسر حرص طهران على افتتاح سفارة في مقديشيو، وإقامة المشروعات الخيرية والاستثمارية ومراكز التدريب المهني بالصومال، والحصول على تسهيلات عسكرية في الإقليم، وتوثيق العلاقات مع إريتريا.
في المقابل، تصر تركيا على أن أحدًا لن يثنيها عن التخلي عن دورها في الصومال، مؤكدة أنها محل ترحيب من الشعب الصومالي، وأنها ليست قوة استعمارية، ولا تنوي نهب الموارد الصومالية، وأنها تتبنى مشروعًا لإعادة بناء الأمة الصومالية، وتوحيد أراضيها، بما في ذلك "جمهورية أرض الصومال" المنفصلة حاليًّا، والعمل على إقرار الأمن في البلاد، باعتباره المعضلة الأساسية، وقطع الطريق أمام نشر قوات دولية في البلاد، بما يزيد أمورها تعقيدًا.
وفي ذلك، فإن الصومال مرشحة في الحاضر والمستقبل لأن تكون ميدانًا أساسيًّا للتنافس بين القوى الدولية الإقليمية. فهل يستثمر الصوماليون ذلك في المناورة والمساومة لتدعيم مصالحهم، أم أن التنافس الخارجي في الصومال سيكون عاملا في استمرار التصعيد الدائر في البلاد منذ عام 1991؟.